من المؤلم أن تجبر ظروف الحياة أحد الزوجين أو كلاهما على أن يستعجل قرار الابتعاد والانفصال.. كأن ما بينهما لم يكن إلا ساعات من الزمن مضت سراعا ، ثم توقفت عن الدوران ..
كأن حياتهما لم تكن إلا رحلة سفر قصيرة ، انقضت على متن قطار أو طائرة أو مركب شراع .. بعدها وصلا لخط النهاية ..
ربما ما عادا يملكان أن يجلسا بجانب بعضهما ، ويتكلما بكلمات لسماعها معنى عندهم ، أو ينظران لبعضهما نظرات صفاء ملؤها المحبة والوداد ، أو يسكن روحهما دفء اللقاء .
إن كتلا من صقيع المشاعر قد تراكمت على صفحة قلبيهما , فتجمدت عندها كل أحرف الكلمات ، وأطبقت الشفاه على صمت طويل !
وفي لحظات من الألم والوجع يشتد أنين الصمت ، ويصير ألمه أقوى ، يٌخرس ألسنة الحوار ، ويُضعف ترجمة اللغات ، ويسقط ستار أحرف الهجاء ، فلا يظل يُسمََع إلا صوت حديث النفس ، تسبح بمفردها في عالم بلا لقاء ، ولا تأثير ولا انفعال .
حينها يسكت ذاك الصوت المنطلق ، ويهزم جرأة الحق في مصارحة كلاهما الآخر بعيوبه ، ورفع صوته عاليا مخاطبا له بقوله : إنك مخطئ ، أو الرد على سيل اتهاماته ومعاتباته ، لأنه فقد أسلوب الحوار الحكيم والراقي ، الذي تنحني له الآذان الواعية تقديرا واحتراما ، وتنصت له باختيار حر.
ولأن الكبر والأنا الصارخة المتعالية في النفس هزمت صوت الاعتراف , فصار كلاهما يتجاهل ألم الآخر وإساءته له ، ولا يراعي مشاعره ، وما يحبه وما يكرهه ، وما يسعده وما يشقيه .
حينها لا يجدي إلا أن يُبقي كلاهما على ألمه بداخله ، ويتحمل وطأة الآهات والبكاء بمفرده ، ويصبر على عطش نفسه اللهفى لارتشاف قطرات ندى ، تروي ظمأ سنين المعاناة .
إنه شعور بالمرارة يخالجهما ، وبالعجز يعتريهما ، وببرود الأحاسيس بينهما وبرغبة متمردة ثائرة تنشد الابتعاد ، وهدنة من المخاوف المترددة ، وحلا لتساؤلات متكررة :
* فعندما يشعران بأن كل شيء قد تجمد فيهما ماذا يفعلان ؟
* وحين يختفي كل واحد من حياة الآخر، مع أن وجوده معه محصور في نفس المكان ونفس الزمان فماذا يفعل ؟
* وعندما يقتل كلاهما الآخر بتصرفاته السلبية ، ويجبره على أن بعيش معه كل يوم قلقا ، يموج خوفا وألما .. ماذا يفعل ؟
* وعندما يعرف كلاهما معالم الآخر ورغباته واهتماماته ، ومراكز القوة والضعف في شخصيته وحقيقته كلها ، ثم يستغلها سلاحا يضعه على رقبته ، ليهزمه به ، ويجبره على أن يكون خاضعا لنزواته ، عبدا لها ماذا عليه أن يفعل ؟
*عندما يوصل كلاهما الآخر لخط النهاية ، ويتركه ينهار وينهار ويتحطم ، ثم يعاتبه على أنه لم يتغير ماذا يفعل ؟
هنا يصير من الضروري أن تنتهي الرحلة ، وينزل أحدهما ويخلف الآخر عند المحطة ، ويودعه الوداع الأخير ، ثم يمضي بلا عودة ، حتى بدون أن يحمل معه حقائب ولا أوراق ولا كتب ولا جوازات سفر ، ولا أي شيء آخر يحفظ حنينا لذكرى ، أو طيف مضى..
لأن قلب كل واحد صار أضعف من أن يتحمل مزيدا من الألم ، أو مزيدا من العذاب مع الآخر , ولأنه لم يتبق لهما إلا أن يعيشا حياة منفصلة عن حياة الآخر، وكأن شيئا لم يكن يوما بينهما .
ما أقساها فصول الحياة التي تتحول كلها إلى خريف ، أوراقه الخضراء ذبلى ، تدوسها الأقدام ، وأشجارها جفت أغصانها وتعرت عن وشاحها ، وصارت في حداد , ومجاري مياه نضب معينها ، وطيور هجرت الأوكار !
حينها تثور في النفس ثورة العذاب ، وتئن في الأوصال أحزان وأشجان ، وتسكب العيون أدمعا ، تنحدر في شلال ..
كم كانت فرحتهما كبيرة ، وابتسامتهما جميلة تعلو المحيا ، تورد الحياة بلون الياسمين الأبيض كلون ثوب الزفاف ، يعطر الأرجاء ، ويشجي بعبقه الأنفاس.
كم كانت الزغاريد والتهاني تتعالى ، ترددها أصوات ما أروعها ، هي أصوات الأحبة والأهل والأصحاب .. تتمايل لها القلوب نشوى ، وتطرب لحلاوتها الآذان ..
حتى أن أعمدة البيت وأسقفه كانت تهزه هزات طرب ، وتراقصه الفرحة العارمة رقصات ..
حتى حبات الطعام كانت فرحى ، وقد زينت الموائد بالأطباق ، وأغرت بطيب رائحتها ، فتسارعت الأيادي لتناولها بلهفة واشتياق ..
كم كانت وليمة العرس بهيجة ، وكل شيء مجهزا لاستقبال العروسين في حلة بيضاء ، ناصعة بالحب والود والترحاب ، صارخة بجمال له سحر أخاذ ، يزيدها بهاء رونق الإحساس ..
وشوق معانقة حياة جديدة مشرقة بالأمل والسعادة ، وإقامة أسرة يشيع بين أفرادها الوئام ، ويسكن جدرانها لبنات ، أرستها أيادي أقسمت على الصدق في العطاء ، والإخلاص في حب يسكن في الأعماق ..
*فكيف أجهضا بعد كل هذا فرحتهما بالطلاق ؟
قد تأخذ دوامة الحياة كلا من الزوجين وترسله إلى منفاه ، حيث يعشش الخوف بداخلهما ، ويسكن القلق بين حناياهما ، ويصير وجودهما معا ليس له معنى ، وتتراكم الأسباب ، وتتضاعف الآلام والأحزان ، قد تكون مشاكلهما تافهة وقد تكون ذات قيمة ، لكنها كافية لدى أي واحد منهما ليمتنع عن الصفح والغفران ، ويكره الاستمرار..
كثيرا ما يشغلني ويحيرني - وأنا أتابع حالات الطلاق التي في ازدياد مهول- *كيف ينتهي الحب فجأة بين زوجين ويحتل الكره مكانه في قلبيهما ؟
*كيف يفرق الكره بينهما بعد أن جمع الحب بينهما سنوات ؟
*كيف قررا في لحظة من الزمن قرارا بالانفصال بعد أن كانا يتلهفان على الإسراع بالارتباط ؟
*ما الذي دعاهما بعد كل الحب والود والأحاسيس الجميلة التي جمعتهما أن يفكرا بأن حياتهما معا صارت مستحيلة ، وبأن وجودهما معا يحمل كل معاني الشقاء ؟
*كيف يملك كلاهما أن ينسى لحظات الفرح والسرور والشوق والحنين والذكريات الجميلة ، التي نُقشت في الذاكرة ، وتربعت في القلوب ، وسكنت بين الضلوع ؟
*كيف استطاعا أن يهدما كل الحيطان ، ويكسرا الأبواب ، ويقفزا خلف الأسوار ويبحثا عن الحرية ؟
*كيف تحول بيت الزوجية بالنسبة لهما فجأة إلى معتقل ، وهما السجينان خلف القضبان ، يتطلعان للهروب ، وفك قيد الاستعمار ؟
لا أملك أنا ولا غيري أن يجيب على ألف سؤال وسؤال ، يتردد على النفس حول أسباب الطلاق ، لأني أرى أن الزوجين هما وحدهما من يعيشا أقدارهما معا ، ونصيبهما من المعاناة ، وهما معا بمفردهما يملكان القدرة على إيجاد حل ناجع لمشاكلهما ، وإيقاف نزيف المعاناة ، و جبر كسرهما ، وتضميد جراح الآلام..
لا يمكن لأحد غيرهما أن يشعر بقسوة حياة مشحونة بهذي المعاناة ، أو يدرك حجم غصص الألم ، أو وجع الجراح ..
وحدهما يعرفان أسرار حياتهما ، ويعلمان بمواطن الضعف والقوة في علاقتهما ، والأسباب التي أدت بهما إلى طلب الطلاق ..
وحدهما فقط من يمسكان بخيوط الحقيقة ، وما يدركه غيرهما لا يتعدى استنتاجات وتخمينات قد تكون مصيبة وقد تكون مخطئة ..
إن على الزوجين أن يدركا بأنفسهما وبمفردهما هذه الأسباب ، التي قد تتشابه وقد تختلف مع أسباب غيرهما من الأزواج ، فلكل حياة حالة ، ولكلِّ قصة ورواية ، لها بداية ونهاية ، وعقدة وحل ..
إنه مسلسل من الأحداث ، تتآلف فيها المشاعر وتتنافر ، وتتخاصم فيها النفوس وتتصالح ، وتهدأ حينا وتثور أحيانا أخرى ، فهي بين تقلبات عواصف ورياح شتى ، تارة تهب دفئا ربيعيا ، وتارة تعصف رعدا شتويا ، وتارة تأخذ لونا خريفيا ، وحينا آخر تُولّْد حرا صيفيا ..
إن لكلٍّ حياة منفصلة عن حياة الآخر من حيث بناء الأساس ، ونشأة الحب ، وبداية الارتباط إلى حين انهيار البناء ، وتوقف نبض الحب ، وختما بمرحلة الانفصال والابتعاد.. كما لكل جنين مراحل نمو بداخل رحم أمه ، يأخذ خلالها معالم شكله كاملة قبل أن يخرج للحياة ..
حين يلج كل زوج أو زوجة بيت الزوجية ، لا يترك خلفه أبوابا ولا نوافذ مشرعة ، وخلف أسواره تبدأ حياة جديدة بحلوها ومرها ، يتجردان فيها من كل المظاهر الاجتماعية ، فيضعان عنهما الأقنعة ، ويزيحان ألوان الزينة ، ويخلعان أثواب الشهرة ، ويظهرا على طبيعتهما وفطرتهما وسجيتهما ..، ويعبران عن مكنونات نفسهما ومزاجهما ، وحركة جوارحهما وراحة جسدهما ورغباته بحرية .. حينها تنكشف لديهما أسرار الحقيقة وكنهها بعيدا عن استعباد أنظار متطفلة ..
إنني أرى أن الحل الحقيقي لأسباب الطلاق لا يمكن أن أقدمه أنا ولا غيري ، ولكن من وجهة نظري أن الزوجين أكفأ وأقدر بحل مشاكلهما من غيرهما ، لأنهما وحدهما أصحاب المعاناة ، وأصحاب القرار ، ولا أحد يملك أن ينوب عنهما في تقييم حياتهما معا ، ومعرفة قدرتهما على التحمل والاستمرار..
منقول من موقع المسلم [بتصرف يسير]