الميلاد والمعجزة
كانت مريم العذراء وحيدة هناك بجوار النخلة انها نخلة معمّرة وأمامها جدول صغير من الماء العذب يسري ماؤه فقاست مريم حرارة الوحدة وقت الولادة وأجاءها المخاض الى جذع النخلة فوضعت ابنها البكر وقامت الى الجدول وغسلته وقمّطته ثم اتجهت به الى الكهف وفي هذا المكان الهادئ نام المسيح نومته الأولى ودخل الى العالم بهذه الصورة المتواضعة كما يدخل أي مولود عادي من عامة الناس وقد استقبلته السماء بمظاهر الترحيب والبشر فشع نور على مهد هذا الوليد المبارك وكانت أمه بعد هذا المجهود الشاق قد استسلمت لضعف ألمّ بها فرأت مظاهر الحفاوة والتكريم لهذا المولود وسمعت ترتيل الملائكة الذين جاؤوا يحفون بالمولود الجديد يسبّحون ويهللون ويهتفون بالتحية لمولده وشاهدت هذا النور الذي انبثق من السماء الى الأرض يعلن لملايين البشر فجر الخلاص من الظلم والاستبداد وظلام الجهل والضلال.
أفاقت مريم من ضعفها وعاد اليها نشاطها فاذا طفلها ينظر اليها نظرة العطف والتساؤل واذا قلبها مفعم بالذكريات الأليمة والصور البشعة واذا هي نهب للتفكير في ساعة لقاء أهلها وذويها. كيف ترد على التهم التي ستنهال عليها؟! ظلت تفكّر في ذلك كثيرا فانتابها موجة من الضيق ونكست رأسها تحاول ابعاد هذه الوساوس عنها قالت:{ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيّا} يا الهي أنت عليم بحالي فألهمني الرشاد وخلصني مما أقاسيه.
كانت مريم حقا في حيرة شديدة لا تستطيع البقاء بمولودها في هذا المكان بدون طعام ولا تستطيع أن تعود به الى ذويها في الناصرة ولا الى أقربائها في بيت لحم فيرموها بالسوء ويقذفوها بالتهم أشكالا وألوانا. أظلمت الدنيا في عينها وساءت الحياة أمامهما وبينما هي في غمرة من ذلك سمعت صوتا يناديها: يا مريم لاتحزني!! قد جعل ربك تحتك ماء سريّا وهزي اليك بجزع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي من الرطب واشربي من الماء وتوكلي بعد ذلك على الله فهو نعم المولى ونعم النصير. سمعا مريم هذا النداء السماوي يتردد على أذنها فكان بردا وسلاما على قلبها أعاد اليها الأمن والثقة وأذهب عنها الخوف والاضطراب فقامت مريم الى الجدول وشربت وهزت بجذع النخلة وجمعت ما وقع منها من رطب ثم أقبلت على الطفل وأشرق وجهها بمحياه فانزاح عنها الكابوس الثقيل وكانت قد سمعت حديث الناس حول ظهور النجم الأكبر وتساؤلهم عن آيات ظهور المسيح المنتظر الذي بشرت به التوراة.
وبينما هي كذلك جاء يوسف النجار اليها في لهفة وحسرة فوجدها في أتم صحة تغسل الخرق وتنشرها على أشعة الشمس وقد حماها الله من كل سوء فلما نظر اليها يستفسر عن حالها أشارت الى المولود فأسرع يوسف اليه ووقف برهة يتأمل ذلك الوجه المشرق الجميل ونحن نتصور ما يجول في رأس هذا الرجل المؤمن من الأفكار بعدما رأى من آيات الله وما سمع من حديث القوم فنعرف السر فيما فعله بعد ذلك حينما وهب كل وقته وبذل كل جهده لرعاية هذا الوليد الخارق لناموس الحياة وأمه السيّدة العذراء. ونتصوره أيضا يعود الى مريم وقد نكّس رأسه هيبة واجلالا ليسألها عملا يؤديه أو خدمة يقدمها. حقا!؟ ان يوسف النجار كان رجلا صالحا تقيا نبيلا كشف الله عن بصيرته وألهمه الحقيقة والصواب. ونحن نتصور مريم تقضي مدة النفاس في هذا المكان الخلائي الهادئ فنجدها هانئة به وقد راضت نفسها على الاقامة فيه وكان يوسف النجار يذرع الأرض كل يوم ويقطع طريقها بين الكهف الذي ولد فيه المسيح وبين القدس حيث يقضي حوائجها ويشتري لها الطعام فاذا عاد من المدينة وجد تمرا كثيرا جاءت به هذه النخلة التي شبّ عمرها واخضرّت أوراقها بعد أن أصابها الكبر ونخرها السوس.
انتهت مدة نفاس مريم العذراء وحان موعد الرحيل الى المدينة فعاود مريم القلق وانتابها الوسواس من جديد. كان يوسف يحزم الأمتعة استعدادا للرحيل ومريم غارقة في همومها ودعائها تطلب العون من الله فسمعت هاتفا يهتف بها: يا مريم صومي اليوم عن الكلام فلا تكلمي أحد من الناس والله يتولاك برعايته. كان الهاتف بهذا الأمر هو جبريل عليه السلام فصدعت للأمر ونذرت الصوم قالت: {اني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيّا} مريم 26.
ولما فرغ يوسف النجار من حزم الأمتعة حملها على دابته ثم نظر الى مريم ودعاها للركوب فركبت دون أن تحرك شفتيها بكلمة واحدة. اتجهت مريم بالطفل الى جبال حبرون وجاءت به الى قومها تحمله قالوا: يا مريم لقد جئت شيئا فريّا وأمرا منكرا!؟ سكتت مريم ولم تقل شيئا للدفاع عن نفسها فأيقنوا أنها ارتكبت خطيئة وقالوا: { يا أخت هارون ما كان ابوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيّا} مريم 28. تكلمي يا مريم ودافعي عن نفسك كيف جئت بهذا الغلام؟!
كانت مريم صائمة لا تستطيع الكلام فلما ألحوا عليها وكثر كلامهم وسؤالهم لها اتخذت قرارا صامتا أصابهم الدهشة الشديدة!! كانت مريم صائمة عن الكلام لا تستطيع الكلام فلما ألحوا عليها وكثر سؤالهم لها: أشارت الى الطفل ليكلموه انه أمر عجيب كيف تطلب مريم شيئا خارقا لم نعتد عليه انها تطلب معجزة تريد أن يتكلم هذا الطفل الملفوف في قطعة من القماش. قالوا في دهشة واستغراب:{ كيف نكلم من كان في المهد صبيا}. كيف نكلم هذا الطفل الذي يكفينا سماع صوت بكائه بصعوبة شديدة من ضعفه وطفولته المبكرة. لقد ولد منذ أيام قليلة فهل يعقل انسان هذا الذي تريده مريم انها تريد المستحيل. ولكن مريم كانت بحاجة الى معجزة كي يصدقها الناس اذ كيف يصدق الناس أن طفلا أنجب بغير أب وفي هذا الأمر اتهام للعرض والشرف حتى أنهم قالوا ان أمها كانت طاهرة شريفة وأبوها لم يكن يوما من الأيام سيء الخلق حتى تأتي هي بهذا الفعل المشين.
انصرفت مشيئة الله أن يكون الرد معجزة لأن الاقناع في مثل هذه المواقف يحتاج الى معجزات ومعجزات والمعجزة والشيء الخارق هنا أن يعتدل الطفل في فراشه ويعرف الناس بنفسه ويدافع عن أمه وما أثير حولها من عبارات الشك والطعن في شرفها وعرضها.
تكلم عيسى المسيح عليه السلام بعد أن قالوا:{ كيف نكلم من كان في المهد صبيا}. قال عيسى وهو ملفوف في رباط الأطفال وملفوف بخرق الفراش.. قال: { اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا* وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا* وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيّا* والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا* ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} مريم 30-34.
وكان حديثه في المهد معجزة عظيمة.[/b]