يُحكى أنَّ أحدَ ملوكِ أثينا كانَ جالساً في حديقةِ قصرِه فرأى طفلَه الصغيرَ وهوَ يمرحُ ويلهو بلا حسيبٍ أوْ رقيب؛ فناداه وقالَ له: يا بنيَّ، هلْ تعلمُ أنَّك أنتَ مَنْ يحكمُ العالم؟! فتعجَّبَ الطفلُ وظنَّ والدَه يمازحه فأرادَ مجاراتَه في المزاحِ قائلاً: وكيفَ يا والدي أحكمُ أنا العالم؟! فأجابَ الأبُ بكلِّ جدِّيةٍ ووضوح: اليونانُ تحكمُ العالم، وأثينا تحكمُ اليونان، وأنا أحكمُ أثينا، وأمُّك تحكمني، وأنتَ تحكمُ أمَّك، فأنتَ يا صغيري مَنْ يحكمُ العالم!
ومعْ أنَّي قدْ سمعتُ هذهِ الحكايةَ اللطيفةَ قبلَ خمسةَ عشرَ عاماً إلاَّ أنَّي لمْ أحفلْ بها خلافاً لهذهِ الأيامِ التي تتراءي لي فيها الفينةَ تلوَ الأخرى، ولا شكَّ أنَّ الإنسانَ الخلوَ منْ التجاربِ والبعيدَ عنْ الملاحظةِ قدْ يُهملُ ما يبدو له بعدَ زمنٍ شيئاً ذا بال، وهذا منْ حكمةِ الله وتدبيره؛ فكمْ منْ مدفوعٍ صارَ المتقدِّم؛ وكمْ منْ ظاهرٍ باتَ كامناً، وهيَ سمةٌ عامَّةٌ في النَّاسِ والدولِ والأفكارِ والأماكن.
ويمكنُ الاستفادةُ منْ هذهِ القصَّةِ في تفسيرِ أحداثٍ كثيرةٍ؛ فإذا استغربتَ منْ أعمالِ إنسانٍ كبيرٍ فابحثْ عنْ الطفلِ الذي يصرِّفه؛ وإنْ خالطكَ الرَّيبُ منْ قويٍ يعملُ بلا حكمةٍ تُرجَّى منْ أمثالهِ فاعلمْ أنمَّا هو عضلةٌ والعقلُ المدَّبرُ غيره، وإذا تفاقمتْ المشكلاتُ والنزاعاتُ بينَ العوائلِ وداخلَها ففتشْ عنْ طفلِها العابث، وإنْ علا ضجيجُ الشركاءِ وبانَ للعامَّةِ خلافُهم فتأكدْ أنَّ ثمَّةَ طفلاً خبيثاً قدْ شاركَهم في الأمرِ وغدا فيهم ذا شأن! وإنْ طالَ بكَ العمرُ فأبصرتَ إنساناً يُهانُ ويُعتدى عليهِ جَهَاراً وإخوانهُ شهودٌ صمٌّ بُكمٌ عُميٌ لا يحرِّكونَ ساكناً ولوْ تجاوزَ عددُهم الخمسينَ ومنهم الغنيُ والسريُ والكبيرُ والخطيرُ فثقْ أنَّ الطفلَ الخفيَّ حاضرٌ ولا يهمنَّكَ بعدَ ذلكَ أبيضاً كانَ أمْ ملوناً؟
وقد يمتعضُ الإنسانُ الصورةُ منْ طفلهِ المسيطرِ عليه كما رويَ عنْ الحافظِ لدينِ الله العبيدي صاحبِ مصرَ الذي كانَ كُلَّمَا أقامَ وزيراً تمكَّنَ وحكمَ عليهِ؛ فيتألمُ الأميرُ ويتحيّلُ عليهِ ويعملُ على هلاكهِ حتى بقيَ بلا وزيرٍ عشرَ سنين([1]). وبالمقابلِ فقدْ يمكرُ الطفلُ وحزبهُ من أجلِ إضعافِ صاحبِ الشأنِ مثلما فعلتْ الحاشيةُ العباسيةُ الفاسدةُ حينَ قدَّمتْ المستعصمَ على غيرهِ ليستخلف؛ وكانَ- كما وصفه الإمامُ الذهبي([2])- ديِّناً كريماً حليماً سليمَ الباطنِ متمسِّكاً بالسنَّةِ إلاَّ أنَّه لمْ يكنْ في حزمِ أبيهِ وتيقظه، ولذا استوزرَ ابنَ العلقمي الرافضي فكانتْ القاضيةُ على الدِّينِ والخلافةِ وبلادِ المسلمين. ومنْ أبرزِ صورِ الخلاصِ منْ سطوةِ "الطفل" نكبةُ البرامكةِ على يدِ الرَّشيدِ لمَّا علمَ هارونُ علمَ اليقينِ أنَّ العاجزَ مَنْ لا يستبد.
وليسَ موقعُ الطفلِ في خانةِ الشرِّ دوماً؛ فقدْ يكون خيراً على صاحبهِ ومجتمعه، كما أنَّ هذا الرّمزَ يصدقُ على الفردِ وعلى المجموعةِ، ويعبِّرُ عنْ الرَّجلِ والمرأة، وقدْ يكونُ ظاهراً أوْ مستتراً؛ وربما يؤثرُ تأثيراً مباشراً أوْ غيرَ مباشر، ويوجدُ في حياةِ أكثرِ النَّاسِ وهم يشعرونَ أوْ لا يدركون، وربَّما يكونُ الإعلامُ دونَ سواه هو الذي يُحرِّكُ الأمورَ شمالاً وجنوباً؛ ولرُّبَّما خمنَّا وجودَ "طفل" مّا فكانَ وهماً لاحقيقةَ له. ومنْ المتعينِ على أولى النُّهى التأكدُّ منْ وجودِ "الطفل" وتحديدُ منطلقاتِه وكيفيةِ التعاملِ معه؛ فلكلِّ طفلٍ لعبتُه الأثيرةُ وحلوائُه المحبَّبةُ التي تجعلُه مفتاحاً صالحاً للاستخدام.
منقول
موقع المسلم