صاحبي السجن
قال تعالى: { ودخل معه السجن فتيان} يوسف 36.
ظل يوسف في حبسه وسجنه راضي النفس قانعا بقضاء الله والذي هو خير له ولما طالت أيام السجن أصبح ليوسف صحبة أصحاب ومن أصحابه الذين كانوا يلازمونه فتيان أحدهما اسمه "مجلب" والآخر " نبوا" كان يوسف يودهما كما يود أصحابه في السجن ويحبهما كما يحب أهل السجن جميعا مما زاد في التصاقهما به ودوام مجالسته والتحدث اليه في كل أمر يخطر ببالهما. لم يكن يعلم يوسف سبب سجنهما ومع دورة الأيام والزمن علم السبب فقد كان الملك الوليد بن الريان ملك مصر طويل العمر والملك وأمضى زمنا طويلا في ملكه ما جعل الناس يملون ملكه فكادوا له وبدأ الكيد من جماعة من مصر فأرادوا المكر بالملك واغتياله فدسوا الى هذين الغلامين وأرسلوا لهما من يفاوضهما في الأمر فقد كان "مجلب" صاحب الطعام وخباز الملك وطباخه الذي يقدم له الطعام كل يوم ويطعمه, أما "نبوا" فقد كان ساقيه يقدم له الشراب بأنواعه ولا يأمن الوليد لغيرهما في تقديم الطعام والشراب له سواء أكان وحيدا أو مع حاشيته وضيوفه. جاءهما جماعة من مصر وعرضوا عليهما مالا كثيرا وبساتين ومزارع جميلة اذا هما دسا السم في طعام الوليد وضمنا لهما السلامة من أي خطر قد يتعرضان له طالت المفاوضات وبعدها وافق "مجلب" سريعا وتردد "نبوا" كثيرا وفي النهاية وافقا على طلب هؤلاء الناس وحصلا على بعض المال منهم.
جاء موعد غداء الملك في اليوم التالي فدس مجلب السم في الطعام وعمل بما اتفق عليه مع المصريين المعارضين للملك الوليد بن الريان والراغبين في اغتياله ليخلو لهم حكم مصر أما نبوا فقد حفظ عشرة سيده ورغب ألا يخون الأمانة فلم يضع سما في شراب الملك. حمل كل منهما ما يخصه من الطعام والشراب فتقدم مجلب بمائدة طعام الملك وحمل نبوا أواني الشرب ودخل على مليكه وامتدت يد الواليد بن الريان للطعام فصرخ نبوا قائلا:" لا تأكل يا مولاي ففي الطعام سم وضعه مجلب"!! تراجع الملك ورفع يده فورا عن الطعام بعد أن امسك به ونظر الى مجلب في دهشة وتنقل بصره بين مجلب ونبوا وقال موجها حديثه لنبوا وقد وقف مجلب يرتعد من شدة الخوف قال: ما تقول يا نبوا؟! قال نبوا: أقول يا مولاي ان الطعام الذي أمامك مسموم فقد دس مجلب السم فيه. فقال الملك: وأنت ماذا فعلت يا بنوا؟ أوضعت السم في الشراب؟ فقال نبوا: حاشا لله يا مولاي فأنت ولي نعمتي ومليكي الذي أرتع في قصوره وأسعد بجواره وأكرّم نفسي من أمواله هل يعقل أن أخون كل هذا يا مولاي؟ فقال الملك وهو ينظر الى مجلب نظرة قاسية: اذن.. تناول الشراب واشربه يا نبوا!! شرب نبوا كأس الملك وأتبعه بكأس آخر ووقف هادئا سليما لم يصبه شيء من الأذى لأن الشراب كان خاليا من السم وطازجا.
اعتدل الملك في جلسته ونادى مجلب كي يقترب منه قليلا وقال له: كل من هذا الطعام يا مجلب. قال مجلب وهو يرتعش وقد تصبب عرقا: لا أستطيع أيها الملك لا أستطيع اعفني من هذه المهمة. صرخ الملك في مجلب قائلا: أيها الخائن أنت تعرف أن الطعام مسموم أتخاف من الموت الآن وقد أردت أن تقتلني, قل لي من وضع السم في هذا الطعام؟ تأتأ مجلب وارتبك وقال في تردد وخوف: لا..لا أدري. نادى الملك جميع حراسه وقال: اقبضوا على هؤلاء وأحضروا لي حيوانا أو دابة تأكل من هذا الطعام.
أحضر الحراس حصانا كبير السن وجعلوه يأكل من الخ المسموم والطعام. فجاؤوا به ولما أكل صهل بصوت عال صهلة وسقط على الأرض ميتا عندئذ تأكد الملك من صدق نبوا وقبض على مجلب ومعه نبوا وأجريت معهما التحقيقات التي أدانتهما ادانة شديدة مجلب وضع الطعام مسموما أمام الملك ولم يحفظ الأمانة التي ائتمنه عليها الملك وهي حياته فمن يأمن لانسان أن يقدم له طعامه فانه يأمنه على حياته وعمره ونبوا اتهم أيضا بأنه كان على علم بالمؤامرة وتأخر في الابلاغ عنها حتى اللحظات الأخيرة. وسيق الاثنان الى السجن ليقضيا عقوبة رادعة بعد أن نجيا من حكم الاعدام وهناك في السجن أصبحا مع يوسف عليه السلام في كل مكان يجلس فيه صباحا ومساءا. وذات يوم جلس الفتيان الى جوار يوسف وقد أهمهما أمر وشغلهما وساد فيهم صمت لوقت قصير قطعه نبوا بقوله: ما علمك الذي تعلمه يا يوسف؟ فقال يوسف: اني أعبّر الرؤيا وأفسرها تفسيرا كاملا بأمر الله.
عاد الجميع الى صمتهم الأول ونظر يوسف في وجه نبوا ومجلب فوجدهما مكروبين مهمومين كأن بهما كربا أو أصابتهما صائبة أو مصيبة عندئذ بادرهما يوسف عليه السلام بقوله: ما لي أراكما مكروبين؟ القرطبي ج 9 ص 36-38. قالا: انا رأينا في المنام ما كرهنا أن نراه. قال يوسف: وما هو؟ قصا عليّ ما رأيتما. تردد الفتيان لحظة في الحديث ثم استهل مجلب الخباز حديثه قائلا: أتنبئنا يا يوسف بتأويل وتفسير ما رأينا؟ قال يوسف: نعم لقد قلت لكما أنني أسطيع أن أنبئكما به ان شاء الله تعالى.. قال مجلب على الفور: رأيت كأنني اخذت وصنعت خبز في ثلاثة تنانير أو ثلاثة أفران لصناعة الخبز وجعلت الخبز في ثلاث سلال فوضعته على رأسي فجاء الطير تأكل منه. وقال نبوا ليوسف: رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض فعصرتهن في ثلاث أوان, ثم صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى صمت يوسف قليلا وقد اشرأبت أعناق صاحبيه ينتظران على شوق تفسير حلميهما العجيبين ثم تغيّر لونه لما عرفه من تفسير الرؤيا عندئذ أعاد نبوا رؤياه بصيغة أخرى فقال ليوسف: أيها العالم رأيت كأني في بستان فاذا أنا أقف تحت كرمة عنب عليه ثلاث عناقيد فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها وسقيت الملك شربة. عرائس المجالس للثعلبي ص 108.
نظر اليه يوسف عليه السلام عرف أنه يستعجل التفسير ونظر باشفاق الى مجلب الذي لم يشأ ان يكرر سرد رؤياه عليه مثل ما فعل نبوا. كره يوسف عليه السلام أن يعبر ويفسر لهما ما سألاه عن الرؤيا لما علم في ذلك من المكروه الذي سيقع على أحدهما وهو مجلب فقد كان تفسير رؤياه مشقة عليه لا يبشر بخير لهذا السبب أعرض يوسف عليه السلام وامتنع عن تفسير الرؤيا وبدأ يتحدث في أمر آخر فيه اعراض عن الخوض في تفسير الرؤيا وفيه دعوة لاسلام أهل السجن وهو كفار.
رتب يوسف عليه السلام أفكاره وجعل همه الأول هو الدعوة لله عز وجل لأن ما عنده من علم هو من الله عز وجل لا يستطيع أن يدعي أو أن يقول ان ما عندي من تفسير للرؤيا هو من علمي الذي جاء من أفكاري وليجعل في قلوب هؤلاء الأصحاب الذين يعيشون معه في السجن شيئا من الايمان والتقوى تستقيم معه شروط صدق الرؤيا فايمان الانسان وصدقه يجعل رؤياه صادقة فلن تجد رؤيا صادقة لانسان كاذب أو عاص لله عز وجل الرؤيا الصادقة نعمة من الله والمعصية تحرم الانسان من هذه النعمة فالمعاصي تزيل النعم وتقضي عليها والطاعات تجلب الخير والبشر والسعادة للناس جميعا لهذ اتجه يوسف اتجاها مغايرا في حديثه قبل أن يفسر الرؤيا. بيّن يوسف لصاحبي السجن أن الله خصه بعلم عظيم ومن هذا العلم قال يوسف:{ لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما}. يعني لا يجيئكما غدا طعام من منزلكما الا أخبرتكما به الآن قبل أن يأتي. فقالا له: هذا من فعل العرّافين والكهنة. فقال يوسف: ما أنا بكاهن وانما ذلك مما علمنيه ربي اني لا أخبركما به تكهنا وتنجيما بل هو بوحي من الله عز وجل. تفسير القرطبي ج9 ص 127.
وبيّن لهم يوسف عليه السلام دينه ومذهبه وقال لهما: اني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت دين وملة آبائي ابراهيم واسحاق ويعقوب وكلهم أنبياء مؤمنون موحدون لله عز وجل وما ينبغي لي ولا لآبائي أن نشرك بالله من شيء وهذا الايمان فضل من الله علينا أن عصمنا من الشرّ كله وزيّن لنا فعل الخيرات للناس ومن فضل الله علينا أن جعلنا أنبياء صالحين وفضله سبحانه عز وجل على الناس وهم عباده الصالحين ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله على ما أتاهم من نعمة وفضل تحيط بهم ولا يشعرون بها. استمع الفتيان لحديث يوسف عليه السلام وقد تشوّقا لتأويل الرؤيا ولكن يوسف لم ينه دعوته ورسالته لهما بعد بل مضى يقول: { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} بأي صفة تحبون أن يكون لكم رب تعبدونه؟ أتحبون أن تعبدوا آلهة متفرقة في العدد والسن؟ انها اصنام تلك التي تعبدونها لا تضر ولا تنفع أهذه الأصنام خير لكم أم الله الواحد القهار الذي قهر كل شيء ان الآلهة المتفرقة تتفرّق في الارادة ولو كانوا كذلك لعلا اله على اله ولتصارعت كل واحدة مع الأخرى. ان ما تعبدونه من أصنام يا صاحبي السجن من دون الله عز وجل ليست من الأوهية في شيء وما هي الا أسماء سميتموها أنتم لانها جماد لا يتكلم ولا يعقل. تحدث يوسف عن الايمان والعقيدة والربوبية والطاعة فهذه رسالته في الدنيا شأنه شأن أي نبي يدعو الناس لعبادة الله الواحد القهار ويدعوهم للتوحيد والطاعة والايمان بأن الربوبية لله ولا يعبد الناس الا الله من خلال هذا الدين القيّم.